قرأه وتحليل الاستاذ الدكتور سلطان العويضه

قصيدة  غربة النفس
للشاعر عبدالكريم العياش الزيد
 
وقرأه نفسيه لها بقلم
أ.د /سلطان موسى العويضه
@ غربة النفس @
 
ياغربة النفس رديني لعنواني 
محتاج مرسى وزحمة ناسٍ ودبكه
محتاج شيخ ببراءة طفل يقراني
ويشتّت احزان روحي دوشه وربكه
لاالناس ناسي ولاالاوطان اوطاني
ناسٍ بمفهومها المقلوب منهمكه
تدرين معنى مشاعر قلب انساني
بينه وبين الغريب اشياء مشتركه
معناه اني اعيش بعالمٍ ثاني
له امنيات وخيالاتٍ وله نسكه
ياتعس حال الغريب اللي بوجداني
تمرّه الريح خجلانه ومرتبكه
وبالرغم من غربتي ماهزّت اركاني
ارجوحة الليل اوعجاجة السّكه
قسوة زماني تصب العزم بايماني
وتهزم فلول الضنون ومصدر الشكّه
مليان حب وغلا باهلي واخواني
مفتاح سر السعاده لي وممتلكه
لكن ياغربتي روحي على شاني
كرهت شاطي سواحل بحرك وفلكه
 
 
توطئة:
يُعدا مفهومي “الغربة” و ” الإغتراب” من المفاهيم الدارجة والمتداخلة في “الذهن” لكنهما حقيقة مفهومين منفصلين تماما. فالغريب هو البعيد عن مواطن أهله ..ولذلك إستخدم شاعر القصيدة المؤثرة المنسوبه للامام زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب رضي الله عنهم “ليس الغريب غريب الشام واليمن إن الغريب غريب اللحد والكفن” إستخدم فيها الشاعر المعنى المباشر للغربة …أما الإغتراب هو إستشعار الإنسان الغربة في وطنه وبين مراتع طفولته وصباه..وهو بين أهله ووالديه و عشيرته وصاحبته وبنيه ..إنها حقيقة غربة “روح” في الإغتراب لا غربة “جسد” كما هو الحال في الغربة..وقد إستخدم الشعراء عبر العصور هذين المفهومين حسب ظروفهم النفسية التي عايشوها ..ولا شك أن “الإغتراب” أي غربة “الروح” هو الأقسى وقعا ، والأكثر ألما، و الأدمى جرحا، كيف لا وأنت تشعر بإنسلاخ ذاتك عن محيطها وبتحليق روحك من دهاليز سُكناها لتفر في فضاءات الله بحثا عن ملاذ ، وطلبا لملجأ وكل ذلك يتم وأنت محاطا بذويك..وقد إكتوى بنار هذه التجربة بعض الشعراء الحقيقيون فسبكوا أروع القصائد التي تُدلل على شاعريتهم وعلى شفافية نبضهم ونحن أمام قامة أحد هؤلاء …إنه الشاعر المرهف عبدالكريم عياش الزيد الذي عنون لقصيدته “يا غربة النفس” فأنسن غربة النفس وخاطبها كإنسان ، وهو بلا شك يقصد “إغتراب” وليس “غربه” ودليلنا أن الإغتراب صابه نفسا لا غربة عاشها جسدا. 
 
______القراءة النفسية_______
يبدأ الشاعر بمخاطبة مباشرة لتيه نفسه طالبا العودة لحياض ما ألفه من عنوان وإحتياجه الفرار من السكون التي تسري به الروح إلى ضجيج زحام الناس وصخب المدينة فعبر عن ذلك بقوله:
ياغربة النفس رديني لعنواني 
محتاج مرسى وزحمة ناسٍ ودبكه
ثم تُمعن روحه في تفاصيل الطلب فيشير إلى أنه بحاجة إلى من يُرقيه شريطة أن يكون شيخ يمتلك براءة الأطفال وهنا لمحة إلى إحساسه إلى أن ما يستشعره من إغتراب لا يُحتمل أن يقابل به شيخ جاد مقطب الجبين حاد الطبع فمثل هذا سيرعب شفافية روحة المحلقة مع العصافير ولا تريد أن تنضم إلى سرب 
 
غيرها..فقال:
محتاج شيخ ببراءة طفل يقراني
ويشتّت احزان روحي دوشه وربكه
ثم يلج إلى سرد تفاصيل ما يراه من حوله بشيء نلمح منه الذهول ونقده الساخر لإنقلاب المنظومة القيمية عند ما يراه من جماهير البشر حوله فقال:
لاالناس ناسي ولاالاوطان اوطاني
ناسٍ بمفهومها المقلوب منهمكه
ثم يسترسل بمخاطبة “غربة النفس” ويساءلها إن كانت تُدرك “كُنه” ما يكتوي به من نار إغتراب وأن لديه قلب إنساني نابض وهناك قواسم مشتركة مع الغريب هو الإحساس بالإختلاف فقط وإلا فالغريب غريب جسد وهو غريب روح ..فقال: 
تدرين معنى مشاعر قلب انساني
بينه وبين الغريب اشياء مشتركه
ثم يجيب على أسئلته الساخرة والموجهة لغربة الروح فيذكر أنه ينتمي لعالم آخر غير هذا العالم المحسوس وأنه مفعم بالأمنيات والخيالات ثم بجمالية يذكر على إستحياء أن له “نسكة” أي ضرورة العودة لعالم الواقع إلى حين لنُسكه ثم العودة مجددا لعالم الإغتراب بما يحمله من أمنيات وخيالات ..وهذه كما يبدو حياة الشاعر بين فر وكر..أوجز كل ذلك بقوله :
معناه اني اعيش بعالمٍ ثاني
له امنيات وخيالاتٍ وله نسكه
ثم يندب حظه العاثر في رحلة الكر والفر هذه فيذكر أن الريح تمر بجانبه وهي خجلانة ألا تستطيع فعل شيء له وهنا أيضا أنسن الشاعر الريح فجعلها تخجل وترتبك فقال:
ياتعس حال الغريب اللي بوجداني
تمرّه الريح خجلانه ومرتبكه
وبثبات الواثق وعزيمة المؤمن يؤكد الشاعر أن كل ذلك لم يُغير من ثوابته شيئا ولم تهتز أركانه برواح الليل ومجيئه إشارة إلى إستشعارة الإغتراب أثناءه أو صخب النهار و قد أشار لها بطريق مليء بالغبار فقال: 
وبالرغم من غربتي ماهزّت اركاني
ارجوحة الليل اوعجاجة السّكه
ثم يشير الشاعر بأنفة إلى أن كل مصيبة لم تقتله تزيده قوة كما يقال فيذكر أن كل هذه المخاضات النفسية زادت إيمانه قوة وأذابت مصادر الشك لديه فقال:
قسوة زماني تصب العزم بايماني
وتهزم فلول الضنون ومصدر الشكّه
ويهبط بنا لأرض الواقع الحاني في مملكته الخاصة فيذكر أن طبعه هذا لم ينسه حبه لأهله وإخوانه ويؤكد أن ذلك هو مصدر سعادته فقال:
مليان حب وغلا باهلي واخواني
مفتاح سر السعاده لي وممتلكه
وأخيرا يختم القصيدة برجاء يوجهه لغربة الروح أن تتركه وهو نلمح إلى أنه هو نفسه الشفيع في هذا الطلب وهذا يُدلل على أواصر الصحبة بينهما …صحبة تسمح له وتخوله للتشفع عندها ..فذكر مفردة ” شاني” أي لأجلي ولأجل العيش والملح النفسي بينهما إن جاز التعبير ويذكر أنه ملّ العوم في شواطيء بحر غربة النفس والترحال في فلكها فقال:
لكن ياغربتي روحي على شاني
كرهت شاطي سواحل بحرك وفلكه
قصيدة باذخة الجمال، عميقة جدا في معانيها ومفرداتها، قطعة جمالية تستحق التأمل لصقل ذائقة روح عطشى لسبر أغوار الجمال.
 
تحياتي للزيد و لكم.
أ.د. سلطان بن موسى العويضة
أستاذ وإستشاري علم النفس
جامعة الملك سعود

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.