سوانح أدبية ( شاعر الكون والألوان الضبابية )

بقلم : محمد عمير الشهراني ( أبو غزيل )
المقدمة:
حين يفكر القارئ الناقد في الولوج نحو قصيدة ما لابد وأن يضع نصب عينيه الطريقة المثلى التي سيطلق من خلالها أحكامه ويستند فيها على مواقفه فمازال النقد قاصرًا في الساحة الشعبية مما أدى إلى تدني المستوى الإبداعي
وبغض النظر عن الشاعر والناقد أيضاً لا يكفينا النظر إلى القصيدة بمعزل عن التيار الشعري العام لأنه من الخطاء الذي يوقع في مأزق القيمة الكبرى التي تقع على النقد وترصد الخلق الشعري في قصيدة الشاعر .
قراءة :
“مرحليات” عندما يكون النقد واعيًا فأنه لا يقتصر على تلميحات بسيطة وكلمات واهية عديمة الجدوى بل يُطلُّ من نافذة شمولية واسعة ، وذلك يتم من خلال مقابلة القصيدة بالعمل الشعري في مجموعة للشاعر ليعطينا القيمة الحقيقة لا الظرفية للقصيدة
“مرحليات “عنوان ألبوم فني شعري
وهل الشعر إلا رحلة وذاكرة
ومرحليات جمع مرحلية وكأنَّ الشاعر هنا أراد تأريخ القصائد في ذاكرة الشعر بحيث يمكن الرجوع إليها
رحلة خلود لا فناء
بداية من العمل الأول ” الفقد والوجد” انتقالاً إلى الثاني
” بث لايف” مروراً على الثالث ” مجنون العرب” وقوفاً عند الرابع ” الألوان الضبابية “
يتضح لنا كل قيم سفر الثقافية والدينية والاجتماعية وثيماته الجمالية وطرائقه وأسلوبه الشعري الفارق
قصائده المعافاة من العلل العروضية وتمكنه من ركوب البحور الشعرية وتأثيره الواضح وابتكاراته في ” الطواريق” الشعرية وتجديده اللافت
سفر حالة شعرية قائمة بذاتها ولا تحتاج لوقفة نقدية ترفع من مستوى الابداع الشعري لديه بل التوقف عند قصائد سفر يمنح النقد فلسفة جديدة وما أنا هنا إلّا متسلق قمة الخلود حيث تمثل شاعريته قيمة إضافية إلى تراثنا الشعري وتزيد في مخزوننا الفكري العام .
المنتبه لخط سير سفر يدرك كثافة الحياة التي
يبثها في عصب الشعر المتعب وصناعته للحركة في نفس المتذوق وزيادة الوعي البلاغي
كل قصيدة في تاريخ سفر هي موضع حديث وعنصر جذب لكل قارئ يمتلك ذائقة شفيفة للجمال
ولكني آثرت المرحلية الرابعة ” الآلوان الضبابية” لكوني آميل نحو اللون وشغفي بالقراءات التشكيلة ربما له الآثر الأكبر في ذلك ولكن السبب الذي تفتقت عنه هذه القراءة هو بثوث التك توك ومحاولة الكثيرين ممارسة الاستاذية على استاذ الشعر وقصائده ممن لا يدركون أن النقد هو موضوعية اخضاع النص الشعري للمدارس النقدية والدراسات المتصلة بالأدب وليس الهوى والمزاج هما حكما الموقف النقدي وهذا تعدي صريح على المنتج الأدبي والموروث الثقافي وتدليس للذائقة الشعرية النقية

شفيف موقفي من شاعر الكون حينما أعترف أنني أنحني بكبرياء وشموخ في حضرته الشعرية فلا أدواتي تتسع لخلق نقدي جديد كما قصائده ولا بلاغتي تفيض بأكثر مما تتدفق عنه بلاغته فما بين الرياضيات والعلوم قانون جاوس وبرهان التوزيع الجاذب الممتد في اللغة

وأول فلسفة المبدعين تبدأ في تحقيق النص الأدبي من سيمياء العنوان
” الألوان الضبابية” من الإيمان العميق لدى الشاعر بأن الألوان لا تحمل مظهراً سطحياً فقط بل أشد تعقيدا وتدخل في جوانب فيزيائية ونفسية وروحانية ولها دور كبير في الفن والشعر والفلسفة وفي سائر الجوانب الإنسانية كان العنوان موفقاً لجذب الحدس وفتح باب الإحتمال
الشعر انفعال والألوان داخل الإنطلوجيا لها خصائص لا يمكن اختزالها وحركة انفعالية في كوامن النفس البشرية
فاللون والشعر يسيران بتوازي مع الدستور الوجودي
نحن هنا في عمليتي الإدراك والوعي نرى سفر وهو ينتشلنا من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل في رمزية اللون ودلالاته التعبيرية
الألوان الضبابية بين الحزن والفرح والوجود وعدمه والإيجابية والسلبية والثنائيات الكونية الجدلية
ولأن سفر رمزي فالضبابية تجعل التنبؤ لديه صعباً إن لم يكن مستحيلاً ولأن سفر شخص متجذر في العادات والأصول الدينية فهو يميل نحو اليقين في مسعى الإنسان لفهم نفسه ومن حوله لأن الغموض والتعقيد يولد اللايقين
في المعرفة والإلتباس في اللغة
لهذا كان بذل السبب جاذبا لمنح الطلب

طلبتك يا إلهي تخلف اتعابي
كبيرات الحسايف ما اقدر احصيها
بدت لي يوم قمت اكسر احسابي
ذهلت من النتيجة قبل اصفيها

في مدعاة المعاناة مدعاة الدعاء
سفر يرى في الدعاء معالجة لأسئلة الحائرين لذلك كانت مقدمة القصيدة محاولة لإثارة التساؤل بالطلب والدعاء
” طلبتك ” والطلب يأتي من عمق المعاناة بخضوع
يقول أبو العتاهية
” طَلَبتُكِ يا دُنيا فَأَعذَرتُ في الطَلَب
فَما نِلتُ إِلّا الهَمَّ وَالغَمَّ وَالنَصَب”
ولكن الطلب من الله معاده استجابه
ورغم عنوان القصيدة إلا أن الدعاء على النقيض تماما
حيث التجلي والصدق والوضوح

مااقول: اني غبي لكن متغابي
أسوف في مهماتي ولا انهيها
اجنبها واروح إلها مع اصحابي
ولا اذكرها ولا ابغى اجيب طاريها
لكن هالحين ما تاسعني ثيابي
بعد روعني اولها وتاليها

لا أعلم كيف يمكن طرق القصيد الشامخ سوى من باب التعلم والتجمل فكلما حاولت الغوص في لجته يذهلني
والشعر الذي لا يجعلك تحاول التنفس بعمق كلما أدركته لا يستحق المجازفة
التجربة التي ولدت الحكمة كنتيجة حتمية لابد وأنها تستحق التساؤل والتقصي
من الجميل أن تعي كل الحدث وتستمر كأنك لا تعي فهذا يجعلك في دائرة التركيز والضوء أكثر وهذا ما يفعله سفر على صعيد الساحة الشعرية
ولكن محاولة السير قدمًا تحتاج إغلاق العالق مما لا نستطيع تخطيه والقصيدة همّ لا يمكن المجازفة بتخطيه

يا مرقاب الشقا منته بمرقابي
تزاورك الحزانى ما تعزيها
مع انك في الرواسي شامخٍ نابي
شهيرن فالمعالم ومتعليها
سفوحك ما تشوق عيون الاعرابي
وشعبانك ماعاد اني براقيها
فامان الله واسحب سالف اعجابي
ابا ارحل عن مداهيلك واخليها
لأنك صرت سلبي مانتب ايجابي
تنقض لي جروحن ما تداويها

المرقاب هو المكان المرتفع الذي يكشف المنطقة من كل الجهات
وتأتي من الترقب والإنتظار قال تعالى ” فاصبح في المدينة خائفاً يترقب”
من يقرأ القصيدة يدرك قوة الربط في الإنزياح الدلالي للمرقاب فقد جمع بين بلاغة اللفظ ومقاربة الحركة أي أنه أحدث تفاعلية وهذا انتقال شرعي من المستوى المحلي إلى مستوى النص الابداعي
في هذه الابيات وحدة دلالية وهذا وجه معاكس للتناقض المفهومي من حيث الربط والإسناد والإنزياحات والتشابه
بين المفهوم والدال
سفر يقرر ترك مرقابه الثابت العالي والشامخ وهذا مالا يستطيعه الشاعر سفر كأنّها وقفةٌ على الأطلال قبل أن تصبح كذلك

معاناتي تزود فترة اغيابي
ولا اكلم بني جنسي ولا اوحيها
سبايب واحدن للشرق صلابي
وحطم هيبتي عن بكرة ابيها

تذكرني هذه القصيدة بطريقة الشعر الجاهلي وكلاسيكيته ولكن بطريقة حديثة مبتكره
انتقالية سلسة وقد اعتادت القصيدة العربية هذا لانتقال كتقليد ادبي
وهذا حسن تخلص حيث انتقل من الموضوع الذي افتتح به قصيدة إلى موضوع آخر ولم يحدث إنفصال فكري لدى المتلقي

عذاب الروح انا في حبك مرابي
اتاجر في مشاعرنا وانميها

المراباة في الحب يقول شمس التبريزي في ذلك:” يجوز الربا في الحب، فمن أعطاك حباً رده ضعفين”
ويال جمال الوحدة العاطفية في الملائمة بين الدال والمفهوم هنا والربط بين الكلمة الاستعارية والملفوظ

جمالك يوم ينفث داخل اعصابي
احس انه يموتها ويحييها
قوامك مختلط شامي وبنجابي
تخر اله الجبابر من كراسيها
وفي عينك تركوازي وعنابي
سهومن جاذبيتها تباريها
لوانه شافك ابو القاسم الشابي
ضرب وزن القصايد في قوافيها

النفث في الأعصاب والتحطيم للمقاييس وصناعة الصورة المذهلة من تخصص شاعرنا سفر
الموت والحياة وانهيار العروش وإطلاق السهام وقوة الجاذبية في قصيدة واحدة هذا كثير جدا
يستحضر الشاعر هنا المقاييس الشعرية العربية ويضربها في المقاييس الشعرية الحرة بلغة ملونة سهلة الوصول
وهذا تأثر واضح بالعالمين النفسي والخارجي
لغة فنية وعبارات بلاغية رائعة مصاغة بإسلوب في قالب شعري جميل يميل نحو النفس الإنسانية وخوالجها الفياضة

على ما اعطاك ربك ياخر احبابي
تحمد واشكر النعمة وواليها
بعد هذي تحمل قسوة اعتابي
الالوان الضبابية ما ادانيها
انا طالبك لا تاقف على بابي
وتحجبني عن الدنيا ومن فيها
شريعة حبك اقسى من حمورابي
يعذب والبشر فالنار يرميها
وانا رحت اتبعك واهملت شيابي
افا كيف الرجل مثلي يسويها
خف الله يوم حشرك لا تبلابي
سجلاتك معي بالجور ماليها
ابادر واحسبك ما تصلح الابي
وتشهد تضحياتن كنت اضحيها
اذا انك ماتبيني ربعي اولابي
رجالن تذكر اسمي في عزاويها
لكن اعتق رقبتي ويش تبغابي
ابي حريتي طالبك عطنيها
عزفت ابياتي موشح وزريابي
ابا اعيد المياه اليا مجاريها

من الحب ورومانسيته وأبو القاسم الشابي هذا الشاعر الذي عُرف بقصائده الناضجة والمؤثرة في النفس الشبابية المعاصرة وفي الفكر العربي الحديث إلى العتاب وقسوته وشريعة حمورابي

” شريعة حبك اقسى من حمورابي”
شريعة:وتاتي في اللغة على أنها المكان الذي ينحدر منه الماء واشتقت من الفعل شرع أي حدد ومنع وأحل وأمر
وهي مجموعة من القوانين تشبيه شريعة الحب القاسي بشريعة حمورابي جمال وحسن بلاغة حيث وصل المراد من التشبيه من حيث إظهار الخفي إلى الجلي حيث قوة التأثير واستدامته و أن العقوبات فيها لا تقبل الإعتذار

في هذه القصيدة يتضح فكر سفر الانسان والمعلم والمثقف والمتفاخر بنفسه وتاريخه
“عزفت ابياتي موشح وزريابي”
على كل لون شعري يغنى فالموشح متصل بالغناء اتصالًا قويا
وزرياب موسيقي ومطرب عذب الصوت وهذا ما جمعه سفر في شعره بين الفصاحة والعذوبة

أعود وأعتذر وأقول: حينما فكرت بالدخول الى حرم قصيدة الشاعر سفر انما محاولة لبلوغ الاسباب
اسباب الفكر والفلسفة
وما توفيقي الا بالله

وقفات :
( من يُمعـن النظر في شخصـية سفر يرى الترابط بينه وبين قصائده إِذْ هو متمسـك بالأنفة العربية بشـكل واضحٍ كالنور وكذلك يحترم الآخرين ولديه فلسفة جميلة في أنسنة الجمادات والتماهي مع رقة وغلظة المفردة في سياق البناء المرتبط بالفكرة في قصائده )
( الألبوم مُنشـد ومنه تم جمع الكلمات )
( بعض المفـردات أو الأشطر يختلف عليها من لا يستطيع المقارنة والمقاربة بين النص وصاحب النص كـ :
إسحب : وهذه شخصية الرجل العربي الذي لا يسترد ما يمنحه ولكن يُلغي قيمة هذا العطاء عندما يصل من لا يستحقه وإلّا لقال الشاعر أبا اسحب
وشعبانك ما عادني براقيها : الشعيب ليس ارضًا منبسطة انما الشعيب مائل يُغذي الأودية في حال هطول المطر وهنا سفر يرى صعود شعبان المرقاب المقصود يزيد من مقام المرقاب نفسه وهذه انفه وذكاء شاعر لم يخالف قوانين الطبيعة )

2 تعليقات على “سوانح أدبية ( شاعر الكون والألوان الضبابية )”

  1. الطريق نحو قصائد سفر.. سفرٌ آخر..
    أبدعت أستاذ محمد👌🏻

    رد
  2. ابوغزيل من اصحاب النظر الثاقب والطرح المميز وتناوله لقصيدة شاعر الكون وتحليله انارة لكل متذوقين الشعر والجام اهل الانتقادات والحاقدين على فرايد القصيد مرحليات.

    رد

اترك رداً على شجن🦋 إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.